حركة الإعاقة في لبنان
يعود اهتمام بعض الجمعيات والمؤسسات في لبنان بشؤون الأشخاص ذوي الإعاقة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد كانت جميع هذه الجمعيات والمؤسسات ذات طابع خيري أو صحي أو رعائي، وقد كانت اهتماماتها تنحصر بتوفير الدواء والإيواء. وقد تكاثر عديدها مع مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، حيث أخذت تتحول بإتجاه الطابع الرعائي. وقد بلغ هذا النوع من السياسة الإجتماعية عصره الذهبي، خلال السنوات التي سبقت مباشرةً نشوب الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. وبسبب تلك الحرب وتزايد عدد الإعاقات الناجمة عنها، أخذ عدد الجمعيات والمؤسسات المعنية بشؤون الإعاقة يزداد بشكل ملحوظ، لا سيما تلك الممولة من الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في الحرب، كبادرة إنسانية نحو الضحايا التي تسببت بإصابتها بالإعاقة، نتيجة حربها العبثية.
ومع تطور الوعي السياسي والإجتماعي لدى الأشخاص ذوي الإعاقة ولاسيما الشباب منهم، بدأت، ومع مطلع الثمانينات تتكون نواة حركة إعاقة حقيقية في لبنان يقودها الأشخاص ذوي الإعاقة أنفسهم. ومع انتهاء كافة مراحل الحرب اللبنانية في العام 1990، كانت حركة الإعاقة في لبنان قد تشكلت وبات لها دور فعال في الحياة الإجتماعية وقضاياها الملحة، وقد كانت تتألف من جمعيات الأشخاص ذوي الإعاقة التي لم يتجاوز عددها يومها عدد أصابع اليد الواحدة، وعدد كبير من المؤسسات والجمعيات الرعائية والخدماتية الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة. وكان من أبرز نشاطات حركة الإعاقة خلال تلك الاونة، تنظيم مسيرة ضد الحرب للأشخاص المعوقين وأنصار قضية الإعاقة في لبنان، وكان ذلك في العام 1987، وقد عبرت تلك المسيرة البلاد من شمالها إلى جنوبها. وقد استطاعت تلك الحركة فرض بعض من أجندتها على الحكومة اللبنانية، فكانت وزارة الشؤون الإجتماعية والمعاقين، ثم تأسيس الهيئة الوطنية لشؤون المعاقين، والتي كان من أبرز مهماتها وضع قانون خاص بالأشخاص ذوي الإعاقة، وقد ضمت تلك الهيئة بين أعضائها ممثلين لجمعيات الأشخاص ذوي الإعاقة.
وبالرغم من المشاكل التي تعاني منها حركة الإعاقة في لبنان، كعدم التنسيق في غالب الأوقات، والتنافس الغير مبرر بين الجمعيات على دور القيادة أو الريادة ضمن الحركة، والعامل الشخصاني أو الأنانية الشخصية وحب الذات، استطاعت الحركة تحقيق بعض الإنجازات والتي كان في مقدمتها تأسيس أول اتحاد لجمعيات المعاقين في لبنان، وإقرار قانون خاص بحقوق الأشخاص المعوقين. وقد تم ذلك بعد مفاوضات عسيرة، دامت لسنوات عديدة، شاركت فيها العديد من جمعيات الأشخاص المعوقين وكان على رأسها اتحاد جمعيات المعاقين اللبنانيين الذي كان يضم 12 جمعية تمثل مختلف الإعاقات، بالإضافة إلى بعض النواب والسياسيين المناصرين للقضية، وقد انتهت بإحالة مجلس الوزراء القانون 220/2000 والذي وبعد جهد جهيد، أقره مجلس النواب في أيار/مايو من العام 2000، ووقّعه رئيس الجمهورية بعد شهر واحد من ذلك التاريخ.
ومع دخول القانون 220/2000 حيز التنفيذ، وبما أن انتخاب أعضاء الهيئة الوطنية وهي الهيئة العليا المشرفة على وضع ورسم سياسة الإعاقة في لبنان كما نص عليه القانون، كان في مقدمة الأولويات، كان لا بد لاتحاد جمعيات المعاقين من أن يخوض تلك الانتخابات وأن يفوز بمعظم المقاعد المخصصة في الهيئة للأشخاص ذوي الإعاقة وجمعياتهم، وهكذا كان. وقد أخذ ممثلو الاتحاد في الهيئة الوطنية لشؤون المعاقين يمارسون شتى أنواع الضغوطات لتنفي ما هو وارد في القانون. وبالفعل استطاعوا استصدار مجموعة كبيرة من القرارات حول تحديد الآليات التي يجب أن تعتمد لتطبيق ما هو وارد في القانون، ولكن تلك القرارات ظلت حبرا على ورق ومن دون تنفيذ. والجدير بالذكر هنا، أن القانون اللبناني قد ترك للوزارات والإدارات المعنية وضع آليات التطبيق وبحسب ما ترتئيه مناسبا، ومن هنا حدث التأخير، فكانت المماطلة بالتنفيذ.
وبالرغم من سياسة الصبر والنفس الطويل التي مارسها الاتحاد، ومع كل المحاولات التي قام بها الأشخاص المعوقون وجمعياتهم مدعومين بمؤسسات الإعاقة وجمعيات المجتمع المدني، ظلت الأمور على ما هي عليه، ولم تجدي كل تلك النشاطات والتحركات نفعا، فكان لا بد من عملٍ ما يحدث التغيير المطلوب. وكان قد مضى على صدور القانون قرابة الخمس سنوات من دون أن ينفذ منه إلا القليل القليل وبشكل مجتزأ أو مبتور. فقرر الاتحاد إطلاق حملة وطنية شاملة لدعم تنفيذ القانون 220/2000 الخاص بحقوق الأشخاص المعوقين، وكان ذلك على أبواب الانتخابات النيابية التي جرت في ربيع العام 2005، بهدف استغلال الظروف السياسية التي تسبق الانتخابات والحصول على دعم السياسيين وتبنيهم لقضية الإعاقة.
وقد بدأت الحملة الوطنية بخمس ورش تدريبية نظمت في المحافظات الخمس، على آليات الضغط والمناصرة لأكثر من مئتي شخص معوق من مختلف المناطق اللبنانية. ثم تبع ذلك لقاءات في جميع المناطق اللبنانية بهدف توقيع العريضة الوطنية التي تطالب بتنفيذ القانون 220, وقد توجت تلك الخطوة بحفل توقيع نظّمه الاتحاد في مدينة بيروت شاركت فيه معظم الفعاليات السياسية والإقتصادية والكتل النيابية التي تسابقت لدعم وتوقيع العريضة. وقد اختتمت تلك الحملة بزيارة قام بها أكثر من خمس مئة شخص معوق لسرايا الحكومة بتنظيم من قبل اتحاد جمعيات المعاقين اللبنانيين، حيث كان هناك لقاء مطول بدولة رئيس الحكومة الأستاذ فؤاد السنيورة، حيث وعد الحضور بالسعي الدؤوب لتنفيذ القانون بأسرع وقت ممكن.
وبالفعل قام دولة الرئيس السنيورة بتعيين إحدى السيدات للمتابعة والإشراف على تنفيذ القانون 220، ولكن الظروف السياسية التي عاشها لبنان حالت دون اتخاذ أية خطوة في اتجاه ما هدفت إليه الحملة. وقد نظّم الاتحاد حملة إعلامية كبيرة واكبت ذلك النشاط الهام، وقد شملت مقابلات تلفزيونية وإذاعية، وملصقات ومنشورات، وندوات وغيرها من نشاطات إعلامية. والجدير بالذكر هنا، أن اتحاد جمعيات المعاقين قد قام بترشيح ثلاثة من أعلام حركة الإعاقة في لبنان للانتخابات النيابية بهدف تسليط الضوء على قضية الإعاقة وإيصال صوت الأشخاص ذوي الإعاقة إلى الندوة النيابية. كما قام قادة الاتحاد بزيارات إلى زعماء الأحزاب ورؤساء الكتل النيابية للحصول على دعمهم وللتأكيد على ادخال قضية الإعاقة ضمن أجندتهم الانتخابية. وقد لاقت هذه الزيارات صدىً إيجابياً كبيراً حيث ظهرت ولأول مرة قضية الإعاقة والمشاكل التي يعاني منها الأشخاص ذوي الإعاقة كمسائل يطرحها المرشحون ضمن برنامجهم الانتخابي.
أما على صعيد الإتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فقد كان لحركة الإعاقة في لبنان ممثلةً باتحاد جمعيات المعاقين وبعض الجمعيات الأخرى دور كبير في مناقشة المسودة الأولى، وحث الحكومة اللبنانية على المشاركة في مفاوضات نيويورك التي سبقت إقرار الإتفاقية، والتي جرت في مبنى الأمم المتحدة هناك. وقد شارك الاتحاد بفاعلية في تلك المفاوضات من خلال رئيسه الأستاذ إبراهيم العبدالله، الذي سافر إلى نيويورك عدة مرات لمتابعة ما كان يجري، ولنقل وجهة نظر حركة الإعاقة في لبنان حول ما تنص عليه الإتفاقية. وقد سافر ممثل الاتحاد ضمن الوفد الرسمي الذي شكلته الهيئة الوطنية لشؤون المعاقين، لكنه، وعندما تخلف الوفد الرسمي عن المشاركة بسبب الظروف السياسية التي كانت تمر بها البلاد، سافر كممثل للمنظمات غير الحكومية.
ومجدداً بسبب الأزمة السياسية التي عصفت بلبنان، لم يصادق مجلس النواب اللبناني على الإتفاقية، علما أن الحكومة كانت قد وقعت عليها في العام 2007. وبالرغم من كل المحاولات التي جرت خلال المدة الأخيرة التي سبقت الانتخابات النيابية، ظلت الأمور على ما هي، وبسبب الخلافات السياسية تم تطيير نصاب جلسة التي كان مفروضاً لها أن تناقش الإتفاقية. وتنتظر حركة الإعاقة في لبنان وتحديدا اتحاد جمعيات المعاقين تشكيل الحكومة لإطلاق حملة وطنية أخرى تستهدف الضغط للتصديق على الإتفاقية الدولية، والعمل على تعديل القوانين المحلية لتتلاءم مع نصوص ومضمون تلك الإتفاقية.
واليوم، ومع وجود ما يقارب مئة جمعية ومؤسسة عاملة في مجال الإعاقة في لبنان، بينها 25 جمعية للأشخاص ذوي الإعاقة، ومع وصول عدد بطاقات الإعاقة التي تصدرها وزارة الشؤون الإجتماعية إلى ما يزيد عن 67 ألف بطاقة بالرغم من أن التقديرات تشير إلى وجود حوالي 150 ألف شخص معوق في لبنان، تقف حركة الإعاقة أمام واقع أقل ما يقال فيه بأنه سيئ. فمع وجود قانون خاص بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لم يطبق منه إلا القليل, ومع دخول الإتفاقية الدولية الخاصة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة حيز التنفيذ على مستوى العالم في الوقت الذي لم يصادق فيه لبنان بعد على تلك الإتفاقية، ترسم هذه الاستحقاقات خريطة طريق طويلة وشاقة أمام حركة الإعاقة، التي عليها أن تتوحد وتجيّش أنصارها من الأشخاص ذوي الإعاقة، وأصدقائها من منظمات المجتمع المدني، وكافة الفعاليات السياسية والإقتصادية المؤيدة لقضاياها المحقة، وذلك استعداداً لإطلاق حملة وطنية شاملة، تهدف إلى إحداث صدمة إيجابية كبيرة على مستوى قضية الإعاقة في لبنان. على أن يكون الغرض الرئيسي لتلك الحملة الانتقال بالقضية من عصر القانون 220 وحقوقه المتفرقة والمبعثرة بين الوزارات، إلى عصر الإتفاقية الدولية وحقوقها الشاملة والملزمة في مضمونها، والتي قد يكون حظ تطبيقها أفضل من حظ تطبيق القانون 220.